الأحد، 5 يوليو 2020

الإنزلاق ..

الإنزلاق ...

                           قصة : مصطفى الحاج حسين .

       ماإن وصلت الحافلة ، حتّى تدفقت جموع الركاب
 للصعود من كلا البابين ، ثمّة عدد من الفتيان الأشقياء ،
 تسلٌقوا أطرافها وتسلّلوا من نوافذها .

       اتخدت مكاني في المنتصف ، وقد أمسكت يسراي
 الكرسي ، المشغول بامرأة ورجلين ، و كانت يمنايّ تحمل
 كتاباً وجريدة ، بالقرب منّي كانت تقف فتاة شقراء ،
 تشبه الشّقراوات اللواتي يظهرن في أحلامي بكثرة .

       مذهلة القوام ، لم أتبيّن ملامح وجهها بسبب وقفتها الجانبية ، تمنيت أن أرى عينيها ، فتاة مثلها ذات شعر أشقر مسدل ، لابدّ أن تكون صاحبة أجمل عينين .. توقفت الحافلة عدّة مرات ، وفي كلّ مرّة كان عددالركاب يتزايد ، ورائحة الحموضة تشتد وتتزاحم الأنفاس والأجساد ، حتى وصلتُ إلى ظهر تلك الفتاة ، وبات جسدي ملتصقاً بها ، وخصلات شعرها أخذت تحطّ على وجهي ، كلّما استطاعت نفحة هواء أن تصل إليه .

       خطر لي أن أبتعد عنها ، فقد تسرّبت إلى نفسي رائحة الأنوثة ، التي حرمت منها ، تلفّت حولي لعلّي أجد مكاناً أوسع لي ، ولكن إلى أين ؟.. وهذه الوقفة المريحة، وهذا الجسد اللدن يدعوانك للاقتراب أكثر .

       الحافلة تهتز وتفرمل وتمشي ، وعلى هذه الأنغام ، كنتُ أنعمُ بالالتصاق خلف تلك السّاحرة ، وأتلفّت حولي بين اللحظة والأخرى ، خوفاً من أن يكون قد أحسّ بحركاتي أحد الركاب .

       وفكرت :
- لماذا لا أتخذ موضعاً أكثر اثارة ، ولن يلحظني أحد ؟!..
 وهي لن تمانع .. يبدو أنها معتادة على مثل هذا الزّحام ،
 لكن هاجساً بداخلي أجابني :
- ماذا تقول ياأستاذ ؟! .. أتعود مراهقاً من جديد ، ألا تخجل !؟.

       لم أعثر حولي على مكان غير مكاني ، الازدحام يزداد .. والمسافة إلى محطة الوصول بعيدة ، و فاتنتي تقف ساكنة لا تلتفت ، كانت سارحة خلف الزجاج .

- لا تكن جباناً وأحمق ، لماذا لا تنعم بهذه اللحظات الدافئة !!.. ليت الطريق يطول أكثر ، وليت هذه الغادة الشقراء لا تنزل أبداً .. طوال عمرك وأنت تحلم بالشقراوات ، والحياة تضنّ عليكَ بامرأة ، مجرد امرأة ،فكيف شقراء ؟!.. إذاً اغتنم هذه اللحظات ،شدّ عليها ، اجذبها إليك ، ولا تدعها تفلت.

     أمامك سنوات ستقضيها وحيداً دون امرأة تشاركك
 فراشك .. تزوّد بالدفء الآن ، بالأنوثة .. بنعومة الشعر ..
 بنضارة العنق الذي تكاد شفتاك تنقضان عليه .. تزود
 بلمسة ، فأمامك ليل طويل ، بمكنك عندها ، أن تتذكر
 هذه اللمسات ، وتستحضر هذه الناعمة ، وتبدأ بممارسة
 عادتك الجهنّمية ، وحيداً ستكون ، تتلوّى في فراشك ،
 تزأر عروقك بالشّهوة ، تستعر أنفاسك ، ونبض قلبك
 محترقاً .. خذ لمسة من عجيزتها .. لمسة واحدة ...
 تكفيك طوال العمر .

       أمر زواجك مستحيل ، ربما بعد خمس سنوات .. وأنت تشارف على الأربعين ، تستطيع أن تفكر .. أنت فقير وراتبك تتلقفه أمك وشقيقاتك ، منذ أول الشهر .. لولا فقرك هذا لما وافقت أمك على طلب يد " فطوم " ابنة أخيها .. آهٍ فطوم .. سمراء بلون الصدأ ، قصيرة مثل برميل ، وعيناها ثقبان بجفون مبطّنة ، وشعرها كأسلاك شائكة ، فمها واسع  التكشيرة ، وأنفها ضخم مكتنز .

       قلتَ حينها في نفسك :
- فطوم .. أفضل من لا امرأة ، والنساء على أية حال
 متساويات فوق السّرير في الظّلام ، وهكذا ذهبت مع
 أمك وأخواتك العوانس الخمس ، لطلب يد " فطوم "  ...
 وكم كانت المفاجأة قاسية عليك ، إذ طلب خالك منكم ،
أن يكون سكنك وحدك ، بعيداً عن أمك وشقيقاتك
 العوانس ، وعليك أن تدفع مئة ألف ليرة للمقدم ، ومثلها
 للمؤخر ، عدا ثمن الذهب خمسين ألف ليرة .. إذا كنت فعلاً راغباً بفطوم .

       انعم إذاً بهذه الشقراء .. اقترب أكثر ..التصق ، حرّك فخذيك قليلاً ، وتحسّس بيدك عجيزتها المكتنزة ، تحسّس ولا تخف ، فالكتاب والجريدة كفيلان بالتمويه..اقترب واياك أن تحدثني عن الأخلاق ، أما يكفيك أنّك كلٌ يوم لا يتوقف لسانك عن ذكر الأخلاق الحميدة والفاضلة أمام طلابك؟ ماذا جنيت من كلّ ذلك ؟ هل نفعتك ؟ .. كل ما تستطيع فعله هو أن تحترق ، أمام وسحر وجمال طالباتك .. إذا كنت تعدّ
 نفسك إنساناً مثقفاً وموضوعياً فعليك أن تعترف بأنك
 رجل مكبوت ، والجنس ضروري في حياة الإنسان ، فلماذا تمنع نفسك عن اللذة ؟ ...

     بالأمس تهربت من الآذنة أم " محمود " بحجة أنها كبيرة ،
 وتعمل آذنة في الثانوية ،إذاً ماذا تفعل وقد ثبت فشلك مع زميلاتك المدرسات ، عجزت عن اقامة أي علاقة باحداهن ، والسبب هو أخلاقك الفاضلة ... إنك لا تعرف الخداع ، كلما تعرفت إلى واحدة صارحتها بحقيقة وضعك المادي .. وتهرب منك .

       في هذه اللحظة وجدتني ضعيفاً مستسلماً لشهوتي
 الحقيرة ، وها أنا أمدّ يدي الراعشة ، لتتحسّس ما تصبو
 إليه ، وبسرعة غير متوقعة ، التفتت فاتنتي إلى الخلف ،
 والصرخة ملء فيها .. وياللهول !! .. كم كانت المفاجأة
عنيفة وقاسية ، كظمت صرختها والدهشة المتجمدة على
 قسمات وجهها وعينيها الجزعتين :
- لا .. لا هذا ليس معقولاً .. شيء لا يصدق ، مستحيل .. لا يعقل أن تكون هذه الشقراء احدى طالباتي ، في الصف الحادي عشر ؟!  رباه لا بدّ أني في حلم .. هذه الشقراء أعرفها جيداً ، إنها "  نوران " أكثر الطالبات اجتهاداً ، تعتني دوماً بجمالها الآخاذ وذكاؤها عال وبديهتها سريعة ، أعرف أنها تكن لي  فائق الاحترام ، وهي تحبّ مادة الفلسفة ..ومرّة سألتني :
- لماذا ياأستاذ يكون مدرسوا الفلسفة إنسانيّن وطيّبين كثيراً ؟ .

       في تلك اللحظة سررت كثيراً من سؤالها ، اعتبرت كلاًمها مغازلة غير مباشرة ، ألستُ أحد مدرسي الفلسفة ؟ .. إنها تقصدني إذاً ، تمنيتُ أن أتقدم وأطلب يدها ..لكنّ فقري سرعان ما قفز ومزّق فارق السّن الأحلام .

       في احدى المرات أخبرتني بأنّها تتمنّى أن تختص في الفلسفة ، فهي معجبة بسقراط الحكيم وبحكمته ،ولكنها كانت تفكر بالطريقة التي تقنع أهلها ، ففرع الفلسفة غير موجود في جامعة حلب ، عليها أن تذهب إلى جامعة دمشق ، وهذا ماسوف يمانعه والدها .

       عندما التفتت ، كان ذلك الشعور الذي ارتكبني أكبر من الخجل ، إنه شعور بالعار والاثم والفضيحة ، شعور جعلني أنكر ذاتي ، لقد سقط القناع عنّي أخيراً ، واكتشفت مدى ما آلت إليه قدرات الشهوانية عندي ، إنّي بكل بساطة أنقسم إلى إثنين : مدرس فلسفة يتشبث بالأخلاق والفضيلة ، وحيوان شهواني عبد وضيع لشهواتي . تمنيت لو تنشق أرضية الحافلة فأسقط وأضيع .. أموت .. لعلي أنتهي وتنتهي " نوران" أيضاً.

       ابتعدت عنها ، تراجعت عن نظرة الاشمئزاز ، التي قذفتني بها ، اندفعت بقوة نحو الباب ، أخذت طريقي
 بصعوبة بالغة ، ومن شدّة توتري وشعوري بالخزي ، دهست قدم طفلة تمسك بأذيال أمها ، التي تحمل رضيعها ، فانبعث صراخ الطفلة فاغرة ببكاء حاد ، تابعت انهزامي غير عابئ بالنظرات الشذراء .. وقفزت عند أول موقف .

       غداً كيف سأواجهها في الصّف ؟ .. لابدّ أنها ستبلغ عني زميلاتها الطالبات .. وسيتبرّعن بدورهنّ لنشر الخبر ، وربما تسّربت الفضيحة إلى بقية الثانويات الموزعة ساعاتي فيها . ثمّ ماذا لو ذهبت " نوران " وأخبرت والدها ؟ .. حتماً سأجده غداً بانتظاري عند المدير ، الذي يعتبرني أفضل المدرسين عنده،  ياللفضيحة .. سيخبر المدرسين والمدرسات ، بما
اقترفته.

       سرت في الطريق ساهماً ، قلبي بنزف ألماً وخجلاً ،
 ودمعتي تكاد تقفز من عيوني ، كان عليّ أن أعرفها منذ
النظرة الأولى ، فهي من أحبّ الطالبات إلى قلبي ، فكم من مرة حلمت بها ، وعرّيتها من " بدلة الفتوة " . كيف لم
أعرفها !؟ .. ألأنها كانت ترتدي كنزة صفراء وبنطال الجنز !! .. أم لأني لم أر وجهها ؟؟ .. كان غباء منّي .. ولكن ما حصل قد حصل .

       عليّ أن أطلب نقلي من الثانوية منذ الغد ، وإذا وجدت الخبر منتشراً في الثانويات ، سأطلب نقلي إلى الريف ، أو ربما قدمت استقالتي .

       وعندما عدّت إلى منزلي متأخراً .. كانت المفاجأة
 تنتظرني ، نعم لقد وافق خالي أن يزوجني " فطوم " مقابل أن أسجّل لها نصف دارنا .. وسيكتب المقدّم عليّ مئة ألف غير مقبوضة ، ومثلها للمؤخر .

       وما كان بمقدوري إلّا أن أوافق .. فأنا فقير ومسؤول
 عن أسرة ، وليس من حقي أن أحلم بفتاة شقراء ، يجب
أن أتخلى عن الرومانسية ، فالفقر والجمال عدوان لا بجتمعان
... سأتزوج من " فطوم " .. وعندها أنام معها سأطفئ النور ، وفي الظلام كل شيء متساو ومتشابه ، فالظلام نعمة يجب أن نحافظ عليه .

                                  مصطفى الحاج حسين
                                           حلب ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مناجاة 🖊 حمزه راضي الفريجي

مناجاة في التيه المترامي ،،، في عينيك السوداوين ،،، الضوء يتباعد !! ينفذحافيا وعاريا !! إلا ما رحم ربي ،،، أناجي الأمل المعقود في هامتي أمسد...