الأحد، 20 سبتمبر 2020

ملح السراب .. الشاعر / مصطفى الحاج حسين /

 /// الفصل الثاني من روايتي ( ملح السّراب ) :

===============================


##          استيقظتُ على ركلةٍ قويَّةٍ ، وقبل أن أفتح عينيّ النّاعستين ، انهمرت دموع الوجع منهما أحسست أنّ خاصرتي قد انشقّت ، وقد هالني أن أبصر أبي، فوق رأسي وعيناه تقدحان شرراً،نهضت

مسرعاً ، يسبقني صراخي وعويلي ، فأنا لم أدّر بعد ، لماذا يوقظني بهذه الطّريقة ؟! :

ـ ساعة .. وأنا أناديكَ .. فلا تردّ ياابن الكلب !.

   

        أنا أعرف أبي ، إنّه قاسٍ ، بل هو أشدّ قسوة وفظاعة من الشّيخ ( حمزة ) نفسه ، ومن مدير المدرسة ( الأعور ) ، فكثيراً ما كان يضربني وشقيقتي ( مريم ) ، لأتفه الأسباب ، حتّى أمّي ، لم تكن تسلم من ضربه وشتائمه :

ـ إلى متى ستبقى ( فلتاناً ) مثل الحمار ، لا عمل .. ولا صنعة ؟!.


        شهقتُ بعمقٍ ، تنشَّقتُ مخاطي ، بينما راحت عينايّ تستوضحان وجهَ أمّي ، المنهمكة باحضار الفطور ، عن معنى مايقوله أبي ، قرأت أمي

تساؤلاتي .. فاقتربت منّي :

ـ ستذهب لتشتغلَ مع أبيكَ .. صار عمركَ عشر سنوات .


        وكدّت أصرخ :

ـ أنا لا أقدر على حمل الحجارة ، ولا أحبّ صنعة العمارة .

غير أنّ نظرات أبي الحادّة ، أرغمتني على الصّمت  فبقيت مطرق الرّأس ، أشهق بين اللحظ والأخرى .

قال أبي بقسوة :

ـ تحرّك .. اغسل يديك ووجهك .. وتعالَ تناول لقمة قبل أن نذهب .


        خرجتُ من الغرفة ساخطاً ، شعرتُ بكره نحو أبي ، وصنعة البناء ، فهي متعبة ، تعرّفتُ عليها ، عندما كنتُ أذهبُ إليه أحياناً ، فأرى ما يعانيه ، الذين يشتغلون بهذه المهنة .. من تعبٍ .


        تبعتني أمّي إلى المطبخ ، وما كدّتُ أسمع وقع خطاها ، حتى التفتُّ نحوها صارخاً :

ـ أنا لا أريد الشّغل .. في العمارة .


        فردّت بصوت يكاد يكون همساً ، بينما كانت تضع إصبعها على فمها :

ـ لو لايّ .. لأخذكَ من سنتين معه إلى الشّغل ..الآن لم يعد يسمع كلامي .

ـ لكنّني لا أقدر على حمل الأحجار ، وأسطلة الطّين . قلتُ بحنق شديد .

قالت أمّي :

ـ وماذا أفعل ؟.. أنت تعرف أباكَ .. لا يتناقش .

وقبل أن أردّ على أمّي .. انبعث صوت أبي صارخاً من الغرفة :

ـ ألم تنتهِ من التّغسيل يا أفندي ؟!.. تأخّرنا .. صار الظّهر .


       أسرعتُ إليه .. متظاهراً بتجفيف وجهي .. وخلال دقائق  ازدردتُ عدٌة لقيمات .


        ونهضتُ خلفه ، حزيناً .. يائساً .. بي رغبة للبكاء ، سرت خلفه ، أراقب حركات ( شرواله)المهترئ  ، وسترته ( الكاكيّة ) الممزٌقة ، تأمّلتُ( جمدانته ) السّوداء العتيقة .. تمنّيتُ في تلك اللحظة ، ألَّا يكونَ هذا الرّجل أبي ، كلّ شيءٍ فيهِ كريهٍ ، حتّى شكله ، عمّي ( قدّور ) أجمل من والدي والأهمّ من هذا كلّه ، أنّه لا يرتدي ( شروالاً ) ، ولا يرغم ابنه ( سامح ) ، الذي يكبرني بسن ونصف ، على عمل لا يحبّه ، لقد أدخله 

وأخته ( سميرة ) إلى المدرسة ، وهو يشتري لهما الألعاب ، ويعاملهما بمحبّةٍ ودلالٍ .


           كنتُ أحدّثُ نفسي طوال النهار ، وأتمنّى التّملّص من أبي ، وكلّما ازداد تعبي ، أزددتُ حنقاً عليه ، الشّمس حارقة ، والأحجار ثقيلة ، وسطول الإسمنت قطّعت أصابعي ،الغبار يخنقني ، والعرق الدّبق يغسّلني ، وأبي لا يتوقّف عن العمل ، ولا يسمح لعمّاله بقسطٍ من الرّاحة ، في الظّل .


        أفكّر في  ( سامح ) ، وكيف سيضحك عليّ ،إذا علم بقصّة عملي ، إنّه الآن في المدرسة ، بعدقليلٍ ينصرف ، ينطلق باحثاً عنّي ، لكنّه لن يجدني سيجوب الأزقّة .. يسألُ أمّي وإخوتي .. وسيفرحه الخبر ، فأنا الآن عامل بِناء ، في ثيابٍ وسخة ، بالتّأكيد سيفتّش عن أصدقاءٍ غيري ، يشاركونه

اللعب .


        لن ننصرف قبل أن تغيب الشّمس ، ما أطول النّهار ، وما أبعد المغيب !.. لن يتسنّى لي أن أرتاح وألعب قليلاً مع ( سامح ) .


        اللعنة على الإسمنت والحجارة ، اللعنة على الغبار الذي أمقته ، أكاد أختنق ، رأسي انصهر من شدّة الحرّ ، والعرق يتصبّب منّي بغزارة ، عليّ أن أستحمّ فور عودتي .


       هذا اليوم أقسى أيّام حياتي ، لم يكد أن يأذّن العصر ، حتّى شعرتُ أنّ قوايَ خارت تماماً ، وجهي تحوّل إلى كرةٍ ملتهبة ، محمرّة ، رأسي أشتدّ به صُداع حادّ ، يدايَ ، قدمايَ ، ظهري، رقبتي ،أكتافي عينايَ ، كلّ خليّة في جسدي الهزيل ، تؤلمني ، وتوجعني ، وتصرخ ، وتبكي ، وتمنّيتُ أن أموتَ في تلك اللحظة ، أو أتحوّل إلى كلبٍ ، أو قطّةٍ ، تذهب حيث تشاء ، تستلقي في الظلّ .. وتغفو . وتساءلت :

  ـ يا إلهي .. ألا يتعب أبي ؟!.. هل هو من حجر ، أم من حديد ؟!.. إذاً لماذا لا يستريح ؟!.. ولو خمس دقائق فقط ، خمس دقائق يا أبي لن تخرب الدّنيا .. شعرتُ نحوه ببعض  الإشفاق ، وبشيءٍ كبيرٍ من الغضبِ والحقد :

ـ إن كنتَ لا تهتمَّ بنفسك ، أو بعمّالك ، فأنا تعبت ، ولم أعد قادراً على تسلّق السّلّم ، ولن أقوى على حمل سطل الإسمنت ، أنا منهار أيّها الأب القاسي ، هل تسمعني ؟!.. ألا تفهم !.. اعلم إذاً بأنّني سوف أهرب .. وأترككَ مع عمّالكَ الأغبياء ، هل باعوكَ أنفسهم ، من أجلِ بضعِ ليراتٍ ؟!.


        ونمت فكرة الهرب في رأسي ، صارت تتغلغل إلى خلايا جسدي  المنهكة فتنعشها ، لكنّني سرعان ما جفلتُ .. من فكرتي هذه ، وصرتُ أرتجف . غير أنّ الفكرة الرائعة ، كانت قد سيطرت عليّ تماماً ، سأهرب .. وهناك في البيت ، سوف تتشفّع لي أمّي.. سأهرب .. وسأرجو والدي أن يعتقني من هذه الصنعة ، وكبرت الفكرة في ذهني ،سألجأ إلى عمّي

( قدّور ) ، أتوسّل إليه أن يساعدني ، في إقناع أبي ، بالعدول عن قراره ، بالعمل معه ، سأعمل في أيّ مهنة يشاء ، فقط لو يتركني أنجو من هذه الصّنعة ، وعزمتُ أن أنفّذ الفكرة .. وتمكّنت من الفرار ، دون أن يلحظني أحد ، فقد تظاهرتُ بأنّني أريد التّبوّل ، ولمّا أدركتُ ، أنّني ابتعدت عن أنظار

والدي وعماله ، أطلقتُ العنانَ لقدميَّ المتعبتين .


        لم أكن أدري ، أنّ أبي سيترك عمله ، ويتبعني إلى البيت

 فور اكتشافه أمر هروبي ، فما كدّتُ أطلب من أمّي ، أن تعدَّ لي لقمة ، ريثما أغتسل وأغيّر ثيابي ، حتّى اقتحم أبي الدار ، والغضب يتطاير من وجهه المغبرّ ، هجم عليَّ ، وفي يده

خرطوم ،  صارخاً في هياج :

  ـ هربت يا ابن الكلبة !.


        يبست الكلمة في فمي ، تراجعت ، انبعث صوتي ضعيفاً باكياً :

ـ تعبت يا أبي .. لم تعد لي قدرة على الشّغل .


      انهمرت على جسدي العاري سياط الخرطوم ، عنيفة ، قويّة ، ملتهبة ،ودونَ أدنى شفقة، أو رحمة وانتشرت صرخاتي في كلّ الاتّجاهات ، حادّة عالية :

  ـ دخيلك يا ( يوب ) ، أبوس رجلك .. أبوس ( صرمايتك ) .


  وأسرعت أمّي نحوي ، ارتمت على أبي بضخامتها  وقفت حائلاً بيننا ، فما كان منه ، إلّا أن صفعها بكلّ قوّة :

ـ ابتعدي .. من أمامي يا بقرة .

تلقّت لسعات الخرطوم ، صارخة :

ـ خير !!!.. يا ( أبو رضوان ) .. ماذا فعل الولد ؟؟.

ـ ابن الكلب ...هرب من الشّغل .


        تابع ضربي ، ولم تنجُ أمّي من ضرباته أيضاً ، فكانت سياطه تقع على جسدها الضّخم ، المترهّل ، بينما وقفت أختي ( مريم ) في أقصى الزّاوية ، جزعة ، مرعوبة ، تبكي بصمتٍ ، وترتجف ، تدفّق الدّم من فمي بغزارة ، فارتمت أمي على قدميه ، ترجوه ، تتضرّع له ، تتوسّل ، تتذلّل ، تبكي بجنونٍ  وبحرقةٍ وألمٍ  :

ـ أبوس ( قندرتك ) توقّف ، عن ضربه ، الولد انتهى .


        هجم عليّ من جديد ، رفعَ يدهُ عالياً ، وهوى بها على رأسي ، فطار الشّرر من عينيَّ ، وصرختُ صرخةً ارتجّت لقوّتها أرجاء الغرفة ، صاحت مريم بذعرٍ شديدٍ ، وبينما كنتُ أتدحرج  ممرّغاً بدمائي  شقّت أمّي ثوبها ، اندلق على الفور نهداها الهائلان ، تناهى إلى أسماعنا ، صوت خبطات قويّة على الباب

 .. رمى أبي الخرطوم ، وخرج ليفتح .


        انحنت أمّي تغسلني بدموعها ، ضمّتني إلى صدرها العاري ، وبكت بحرقة ، وهي تدمدم :

ـ أسفي عليك يا ( رضوان ) ... أسفي عليك يا ولدي .


    دخل عمي ( قدّور ) ، فأسرعت أمّي إليه باكية :

ـ دخيلك .. الولد راح من يدي .


زعقَ أبي .. متهدّج الصّوت .. وكان النّدم قد تسلّل إلى صوته :

ـ ادخلي .. غرفتك يا مقروفة الرّقبة .. واستري صدرك .

لكنّها لم تأبه بكلامه :

ـ الولد بحاجة إلى دكتور  يا ( قدّور )  *


                         مصطفى الحاج حسين .

                                    حلب .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مناجاة 🖊 حمزه راضي الفريجي

مناجاة في التيه المترامي ،،، في عينيك السوداوين ،،، الضوء يتباعد !! ينفذحافيا وعاريا !! إلا ما رحم ربي ،،، أناجي الأمل المعقود في هامتي أمسد...